Wednesday, May 13, 2015

مسالة البخاري بقلم : يوسف زيدان

 
مهمة جمع الأحاديت النبوية و ضبط أسانيدها فى وقت الإمام البخارى ، أعنى فى نهايات القرن الثانى الهجرى و فى غمرة الدسّ الكثير الذى حدث مع شيوع الإسرائيليات وحكايات القصّاصين و مجالس السمر و نسبة الكلام إلى غير قائلة ( حيث كان كثيرون يرتزقون من هذه الحرفة ) فهى لم تكن مهمةٌ سهلة ، و لم يكن شخصٌ واحدٌ ليستطيع القيام بها مهما كان من علوّ همَّته و مثابرته على البحث و التدقيق . و لذلك ، فقد عاصر البخارى و سبقه كثيرون من العلماء الذين أفنوا أعمارهم فى هذه المهمة ، فمنهم من اكتفى بالتدريس و الإسناد لسامعيه من دون أن يُحرّر كُتباً ( عملاً ، فيما يبدو ، بالحديث النبوى : لا تكتبوا عنى غير القرآن ) و منهم من وجد الحل فى التدوين ، مثل إسحاق بن راهويه الذى كان يصرّح برجائه فى أن تُجمع صحاح الأحايث فى كتابٍ جامع ، و هو الأمر الذى حدا بالإمام البخارى لوضع كتابه المشهور بصحيح البخارى ( عنوانه الفعلى : جامع الصحيح ) و منهم علماء اهتموا بتدوين الصحاح و المستدركات عليها ، مثل الإمام مسلم ، المتوفى بعد الإمام البخارى بخمس سنوات عام 261 هجرية ، و هو صاحب الكتاب المشهور بصحيح مسلم ( و عنوانه الفعلى ، أيضاً : جامع الصحيح ) و معاصرهما الإمام ابن حنبل صاحب المذهب الفقهى المعروف ، المتوفى 241 هجرية ، و هو الذى اهتم بضبط الحديث النبوى لضبط الأحكام الفقهية ، و وضع فى صحاح الأحاديث كتابه : المسند . و منهم الإمام الحاكم ، صاحب كتاب "المستدرك على البخارى و مسلم" ، المتوفى فى زمنٍ قريبٍ منهما ، سنة 341 هجرية . . و غيرهم .
هى إذن ، حركةُ كبيرة قام بها أجلّاء من العلماء المخلصين ، لتخليص العقل العربى و الإسلامى من ركام هائل الأقاويل "غير الصحيحة" التى نُسبت للنبى ، و ما كان بإمكان شخصٌ واحدٌ القيام بمهمة هائلة كهذه . . و من بعد هؤلاء ، جاء علماء آخرون نظروا فى محتوى الأحاديث النبوية و طبيعتها ، كان منهم فى القرن السابع الهجرى العلّامة ابن الصلاح صاحب الكتاب المشهور بعنوان " مقدمة ابن الصلاح " و قد رأيتُ مخطوطةً منه بخطّ مؤلفها ، مكتوب عليها العنوان كالتالى : كتاب معرفة أنواع علم الحديث . و كانت وفاته ابن الصلاح سنة 643 هجرية ، و بعد ذلك بقليل كانت وفاة ابن النفيس سنة 687 الذى وضع كتاباً بعنوان : أصول علم الحديث النبوى . و قد اتفق كلاهما فى كتابيهما ، على أن الحديث مهما بلغ من علوّ الإسناد و صحة التسلسل ، فإنه لا يصل إلى درجة اليقين به . . و هو ما يُضعف العمل به .
و على ما سبق ، لا يجوز توجيه اللوم ( أو شتائم الجهلاء ) للإمام البخارى الذى خطا مع أقرانه خطوةً مهمة على طريق تحرير العقل من فوضى النصوص و نسبة القدسية إلى ما هو غير مقدّس من العبارات . ثم خطا اللاحقون عليهم خطوةً تالية فى نقد محتوى الأحاديث ، و كان إجماع رأيهم هو عدم الالتفات للحديث المتعارض مع القرآن ، و مع حديث آخر ، و مع العقل .
و أما زعم القائل إن البخارى و مسلم لم يُطبع كتابيهما إلا منذ مائتى عام ، و كانا قبل ذلك غير معروفينِ ! و إنه "يتحدى أن تكون هناك مخطوطتين للكتابين" حسبما قال فى برنامج تلفزيونى ! فهذا زعمٌ كفيل بإطلاق ضحكات السخرية من فم أى مشتغل بالتراث و المخطوطات . . و خشية أن يستقر هذا الزعم الباطل فى أذهان الناس ، أقول إننى رأيتُ فى الخزانات الخطية بأنحاء العالم و عواصمه ، ما لا حصر له من مخطوطات الكتابين . و بعضها مخطوطات ألفية ( أتمت من عمرها ألف عام من الزمان ) و قد قدمتُ صوراً لبعضها فى كتابى الذى صدر قبل أعوامٍ بعنوان : المخطوطات الألفية .
كيف يُقال إن كتابىْ البخارى و مسلم ، كانا غير معروفينِ قبل مائتى سنة ! و ماذا عن شروحهما الكثيرة ! ألا تدل هذه الشروح و الحواشى عليها ، على اهتمام العلماء قبل هذه "المائتى عام" بالكتابين . . و أين سنضع " فتح البارى بشرح صحيح البخارى " الذى أقيم بالقاهرة احتفال عالمى ، يوم انتهى منه مؤلفه الإمام ابن حجر سنة 842 ، و أقيم الاحتفال خارج سور المدينة ، و حضره السلطان المملوكى ، و جاءته وفود من شتى بقاع العالم الإسلامى ( يقول المقريزى : و كانت تكلفة الذبائح "لإطعام الضيوف" يومها ، خمسمائة دينار ) . . و ماذا عن عشرات الشروح و الحواشى ، التى كتبها علماء الحديث طيلة الألف سنة الماضية !
و أخيراً ، فعندما كان الناس يشتغلون بالعلم و يحترمون أنفسهم و سامعيهم و سابقيهم ، لم يظهر بينهم من توافه الناس من يُفجّر المفاجئات البائسة التى من نوع "إرضاع الكبير ، شرب بول الرسول ، سقوط الذبابة فى الشراب ، جئتكم بالذبح . . " و غير ذلك من السخائف المعاصرة التى كان الأقدمون يعرفون أن ورودها فى كتاب لا يعنى بالضرورة أنها يقينية ، و أن جهد جامعى الصحاح كان يتوقف على ضبط السند ، و أن المتن ( نص الحديث ) له قواعد و أصول تتجاوز التسكع عند غرائب الأخبار النبوية ، و الصراخ بسببها فى قنوات التلفزيون لجذب أنظار الناس ، لجذب الإعلانات إلى البرامج "الساخنة" و بالأحرى : البائسة .


No comments:

Post a Comment